|
المشي تحت المطر
![]() المشي تحت المطر
للوهلة الأولى حين رأيت صديقا لي في منشور له يمشي تحت المطر، وقد كتب (خليهم يقولوا مجنون).
نظرت الى المنشور على أنه نوع من المداعبة الفيسبوكية، والخروج على نمطية النشر التقليدي لتغيير الجوّ، وهو صديق معروف بمواقفه الوطنية ومعروف بمساعدته للمعوزين والفقراء، وتفقّد أوضاعهم في مثل هذه الظروف الجوّية، ولا أزكّي على الله أحدا، وكان لي تعليقات من باب الطرافة والمداعبة، وانتهى الأمر.
قام ذهني باسترجاع المنشور وصورة الصديق بعد صلاة الفجر مرة أخرى، دون أن أدرك سببا لذلك، فكل ما في الأمر أن صديقي أراد أن يكسر جمود الحياة، ووجد لنفسه فسحة من العمل وضغوطات الحياة فخاض غمار تجربة قد تجعل الآخرين ينظرون إليه على أنه مجنون، وسألت نفسي لماذا سيتهمونه بالجنون، إنه رجل يمشي تحت المطر بين ملايين البشر الذين يمشون تحت المطر، ولكنني حين استعرضت ماهية صورة الصديق الحبيب فعرفت أنِّ وصف الجنون سوف يتسلل إليه من خلال ممارسة المشي تحت المطر من باب "الترف المجتمعي"، فمن غير المعقول أن رجلا ناضجا عمريا، وناضجا اجتماعيا وماديا، يترك سيارته ذات الدفع الرباعي، ليمارس المشي تحت المطر كالفقراء إلا من باب "الترف المجتمعي"، فقد يصبح أي سلوك مرتبط بالفقر نوعا من الترف في مرحلة ما، وخصوصا أن الصديق الجميل كان يلبس جاكيتا من الجلد الطبيعي الفاخر الذي يضمن عدم وصول الماء للجسم، ويرتدي تحته جاكيتا آخر من الصوف متّصل بقبعة، على نحو يضمن توفير الدفء الكامل له ولا ندري ما يلبس تحتهما أيضا لتأمين كافة مستلزمات "الترف الشتوي"، وما يتبع ذلك بالتأكيد من بنطال من الجينز وحذاء من الجلد الفاخر الطبيعي ( سواء أكان من البالة أم من جبل اللويبدة، او من مكة مول فالأمر سيَّان).
طبعا الكلام ليس عن صديقي الحبيب، فأنا وجدتني هنا أتحدث عن ذلك الفتى الذي كان يقطع الطريق ماشيا يوميا من بيته في اعلى جبل الجوفة إلى مدرسته الواقعة قرب المدرج الروماني، لمسافة لا تقل عن نصف ساعة من المشي (نزولا حادا في الذهاب، وصعودا قاسيا في العودة) على مدار سنوات الدراسة، يحمل نصف طن من الكتب، ويحمل في حقيبته سلة سوداء جميلة من الخيوط الحريرية ولها يدان على شكل دائرتين، تصبح بحجم كفة اليد داخل حقيبته، كانت حتمت عليه طوال سنوات المدرسة أن يشتري من المخبز الواقع في منتصف الطلوع باتجاه البيت ما يلزم من خبز لبيته وبيت إخوته من أبيه، وما تزال رائحة الخبز الساخن تداعب أنف ذلك الفتى وهو يكتب هذه السطور، ويشعر معها بحرارة الخبز على ظهرة حين كان يلقي بالسلة فوق ظهره، ويذكر معها أنه كان مضطرا في أيام المطر أن يخفي كمية الخبز بين جسمه وبين الجاكيت ليضمن عدم وصول المطر إلى الخبز الساخن، الذي يكوي صدره بحرارته، وكثيرا ما تسبب له بلفحات من البرد كانت تجعله مضطرا لشرب الزيت الحار ووضع كمادات الزيت الحار على صدره ليتمكن من النوم بسبب شدَّة السعال، ولطالما كان سمع بأن الولد الذي يجيء بعد عدة فتيات يكون أكثر عرضة للمرض، لأن الخوف يكون عليه أضعاف الخوف على الولد الذي يسبقه اثنان أو ثلاثة من الذكور.
الآن، وبعد سنوات طويلة أصبح فيها المشي تحت المطر نوعا من الترف الاجتماعي، ما يزال يشعر بأنه لا يحب البرد، وفصل الشتاء رغم أنه يرجو الله دائما أن تمطر السماء وتسقي الزرع وتدرَّ الضرع، لكنه سرعان ما يتذكر ذلك الفتى حين كان يعود من البيت بعد مشي نصف ساعة تحت المطر ليصل البيت وقد التصقت ثيابه به تماما، وتقاطر الماء من كل أجزاء جسمه واصبح حذاؤه يصدر أصواتا غريبة تحت المطر، ليجد والدته تتلقفه من أعلى الدرج وتبدأ بتجفيفه قرب المدفأة، وتجفيف ملابسه مع ملابس الخمسة الآخرين من إخوته، فتشعل ثلاث صوبات ليتسنى للزي المدرسي ومراييل الفتيات أن تجف قبل الصباح، وتعود إلى ممارسة مهمتها في البلل الشتائي من جديد ذهابا وإيابا، ولا تنسى أن تضع صفا من الأحذية المدرسية أسفل الصوبات لتجف هي الأخرى وتكون قادرة على القيام بواجبها الشتوي صباحا.
ما يزال يذكر كيف كان أحيانا يهرب من المطر ليمشي تحت بلكونات بعض البيوت في طريق المدرسة ليتفاجأ بمزراب ينهمر فوق رأسه ويتسرب الماء من خلف رقبته ليشعر به وهو يسري هبوطا من ظهره إلى قدميه إلى حذائه فيشتم كل المزاريب، ويشتم معها الطريق والمدرسة والحياة، خوفا من أن لا تجفّ حتى الصباح.
كما تتداعى أمام عينيه الآن صورة ذلك الفتى الجامعي، حين كان يعود إلى البيت الذي يسكنه، في الثنية، وقد تقاطر الماء من كل أنحاء جسمه فيبدأ بإشعال المدفأة، في غرفة أقل ما يقال عنها أنها (فريزر)، لأن والدته ليست هناك لتستقبله في بيت دافئ، وتتناول ملابسه وتقوم بتجفيفها وتقضي سهرة المساء وهي تقلب ثياب الأبناء الستة، هو الآن مضطر لتقليب ملابسه وحذائه لضمان جفافها جيدا قبل الصباح، ثم يخطر بباله الأيام التي كان يعود فيها للبيت فلا يجد الكاز في المدفأة لأن مخزونهم الاستراتيجي الأسبوعي من الكاز قد نفد، فيضطر إلى الذهاب إلى المحطة لشراء الكاز، والعودة ماشيا على البيت لأن الباصات كانت ترفض تحميله مع (قلن) الكاز الذي سيتسبب في تقوس أصابعه طوال الطريق، وسيقضي الليلة كلها وهو يحاول تخفيف أثر حمل الكاز على أصابعه، لدرجة أنه كان غير قادر على وضع سيجارة بين أصابعه وإشعالها لشدَّة الألم الذي يشعر به في اطرافه المتجمدة، وفي إحدى المرات توقف له سائق (تراكتور) عائدا من يوم "حراث" ماطر، ونظر إليه نظرة إشفاق وهو يقلب (قلن) الكاز بين يديه يمنة ويسرة للتخفيف عنهما، فأشار عليه بالجلوس فوق عجل التراكتور ويضع (قلن) الكاز في حضنه، حين كان قد استسلم تماما لزخات المطر وسمح لها أن تتسرب إلى كامل جسمه، دون مجرد محاولة منه لمنع وصولها إلى أنحاء جسمه، فلم يعد يشعر بأي شيء سوى أنه يريد أن يصل إلى غرفته الباردة، قبل أن يصل أصدقاؤه من محاضرات المختبر التي كانت تنتهي في المساء، فيجلس بعض الوقت وحده، ليعيد بناء روحه المتهدمة قبل مجيئهم وبدء رحلة إعداد العشاء وجلي الصحون بماء كالثلج.
قد لا يتبع............
حسن جلنبو
![]() تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ،
ويحتفظ موقع 'ألوان للثقافة والفنون' بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أو خروجا عن الموضوع المطروح ، علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
اختر هنا لادخال التعليق |