|
رائحة أمِّي كان ثمة رائحة مميزة تدغدغ أنفه حين تتراءى صورة أمِّه أمام عينيه، رائحة من نوع ما تتداعى إلى ذهنه وترتبط بها، علما بأنه لا يذكر أنه رأى في غرفة والدته زجاجة عطر فرنسية أو عربية، فهي بالكاد كانت تدهن يديها بالفازلين بعد يوم حافل من الغسيل والطبيخ والجلي، ولكنَّ لها رائحة مميزة، أشبه ما تكون برائحة الزهر، فقد يكون لشغفها الشديد بالزروع وأنواع النباتات أثر في ذلك، أو قد تكون ياسمينتها الصغيرة قد اتحدت مع مسام جلدها فأكسبتها رائحة دائمة، فقد كان ثمة حديث صباحي يومي بينها وبين ياسمينتها الصغيرة، تتفقدها كل صباح، وتتفقد أوراقها وزهورها، وتداعبها بين يديها. كما لا يذكر الفتى أنه منذ دخوله المدرسة قد ارتمى في حضن والدته، أو ضمَّها، حيث لم تكن ثقافة ضمّ الأمهات قد تغلغلت في المجتمع، وقد تكون ضربا من الخفَّة أو العيب، فلا يذكر أنه قبَّل والدته إلا في الأعياد ومناسبات النجاح والتخرج، والزواج، وغيرها من المناسبات التي لا يكون فيها للقبلة أو العناق أية خصوصية، قدر ما هي طقس رسمي يتم القيام به. الآن، وبعد أن لم يبق في الحياة متسع للقاء، يسأل نفسه كثيرا، ما كان ضرّك لو حضنتها ذات صباح، واستنشقتها حتى الشبع؟، ما لك وللمجتمع وما يفرضه من طقوس بائسة، بداية كلَّ شتاء تتسرَّب إلى أنفه رائحة خاصة، هي رائحتها، تأتي بها بدايات دخول الشتاء، وبدايات البرد، تهجم على ذاكرته مجموعة من الصور، تكاد تفترسه، صورة "صوبة البواري"، وصورة السجاد الذي غطى كل زاوية في البيت، وبرميل الكاز الذي امتلأ تماما ليكفي شهرين على الأقل، ثم صورة المطر وهو يطرق زجاج (البرندة) فيهزّه هزا يثير الرعب، فما تلبث أن تتسرب إليه رائحة أمِّه فتهدأ روحه وتعود إليه السكينة، لم يكن يخشى البرد والشتاء حين كان بين يديها كما يخشاهما الآن. يبحث عن رائحتها لعلها تبعث الهدوء في نفسه فيستطيع النوم دون أن تفترسه الكوابيس، ودون أن يخشى أن يتحرك عنه الغطاء ليلا، لأنه على يقين بأن والدته سوف تجيء بعد أن يغفو وتغطيه بالغطاء الإضافي الذي يرفضه كل ليلة، ثم يستيقظ فيجده فوقه طوال فصل الشتاء. قد يتبع.... حسن عطية جلنبو |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||